الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين
.بَيَانُ الْمُرَاءَى لِأَجْلِهِ: أَشَدُّهَا: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ التَّمَكُّنَ مِنْ مَعْصِيَةٍ كَالَّذِي يُرَائِي بِعِبَادَاتِهِ وَيُظْهِرُ التَّقْوَى وَالْوَرَعَ وَغَرَضُهُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْأَمَانَةِ فَيُوَلَّى مَنْصِبًا أَوْ يُسَلَّمَ إِلَيْهِ تَفْرِقَةُ مَالٍ لِيَسْتَأْثِرَ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ، أَوْ يُودَعَ الْوَدَائِعَ فَيَأْخُذَهَا، أَوْ يَتَوَصَّلَ إِلَى التَّحَبُّبِ بِامْرَأَةٍ لِفُجُورٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ يَحْضُرَ مَجَالِسَ الْعِلْمِ وَالتَّذْكِيرِ وَقَصْدُهُ النَّظَرَ لِأَمْرَدَ، فَهَؤُلَاءِ أَبْغَضُ الْمُرَائِينَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا طَاعَةَ رَبِّهِمْ سُلَّمًا إِلَى مَعْصِيَتِهِ، وَيَقْرُبُ مِنْهُمْ مَنْ يَقْتَرِفُ جَرِيمَةً، وَهُوَ مُصِرٌّ عَلَيْهَا فَيُظْهِرُ التَّقْوَى لِيَنْفِيَ التُّهْمَةَ عَنْ نَفْسِهِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ غَرَضُهُ نَيْلَ حَظٍّ مِنْ حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنْ مَالٍ أَوْ نِكَاحِ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ، كَالَّذِي يُظْهِرُ الْعِلْمَ وَالْعِبَادَةَ لِيُرْغَبَ فِي تَزْوِيجِهِ أَوْ إِعْطَائِهِ، فَهَذَا رِيَاءٌ مَحْظُورٌ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ بِطَاعَةِ اللَّهِ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَكِنَّهُ دُونَ الْأَوَّلِ. الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ نَيْلَ حَظٍّ وَإِدْرَاكَ مَالٍ أَوْ نِكَاحٍ وَلَكِنْ يُظْهِرُ عِبَادَاتِهِ خَوْفًا مِنْ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ النَّقْصِ، وَلَا يُعَدَّ مِنَ الْخَاصَّةِ وَالزُّهَّادِ، وَيُعْتَقَدَ أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَامَّةِ، كَالَّذِي يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَيَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ فَيُحْسِنُ الْمَشْيَ وَيَتْرُكُ الْعَجَلَةَ كَيْلَا يُقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ اللَّهْوِ وَالسَّهْوِ لَا مِنْ أَهْلِ الْوَقَارِ. وَكَذَلِكَ يَسْبِقُ إِلَى الضَّحِكِ أَوْ يَبْدُو مِنْهُ الْمِزَاحُ فَيَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ فَيُتْبِعَ ذَلِكَ بِالِاسْتِغْفَارِ وَتَنَفُّسِ الصُّعَدَاءِ وَإِظْهَارِ الْحُزْنِ وَيَقُولُ مَا أَعْظَمَ غَفْلَةَ الْآدَمِيِّ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ لَمَا كَانَ يَثْقُلُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَخَافُ أَنْ يُنْظَرَ إِلَيْهِ بِعَيْنِ الِاحْتِقَارِ لَا بِعَيْنِ التَّوْقِيرِ، وَكَالَّذِي يَرَى جَمَاعَةً يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ وَيَتَهَجَّدُونَ أَوْ يَصُومُونَ الْخَمِيسَ وَالِاثْنَيْنِ أَوْ يَتَصَدَّقُونَ فَيُوَافِقُهُمْ خِيفَةَ أَنْ يُنْسَبَ إِلَى الْكَسَلِ وَيَلْحَقَ بِالْعَوَامِّ، وَلَوْ خَلَا بِنَفْسِهِ لَكَانَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَالَّذِي يَعْطَشُ يَوْمَ عَرَفَةَ أَوْ عَاشُورَاءَ فَلَا يَشْرَبُ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ غَيْرُ صَائِمٍ، أَوْ يُدْعَى إِلَى طَعَامٍ فَيَمْتَنِعُ لِيُظَنَّ أَنَّهُ صَائِمٌ، وَقَدْ لَا يُصَرِّحُ بِـ: إِنِّي صَائِمٌ وَلَكِنْ يَقُولُ: لِي عُذْرٌ، وَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ خَبِيثَيْنِ فَإِنَّهُ يُرِي أَنَّهُ صَائِمٌ ثُمَّ يُرِي أَنَّهُ مُخْلِصٌ لَيْسَ بِمُرَاءٍ، وَأَنَّهُ يَحْتَرِزُ مِنْ أَنْ يَذْكُرَ عِبَادَتَهُ لِلنَّاسِ فَيَكُونَ مُرَائِيًا فَيُرِيدُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ سَاتِرٌ لِعِبَادَتِهِ، ثُمَّ إِنِ اضْطُرَّ إِلَى شُرْبٍ لَمْ يَصْبِرْ عَنْ أَنْ يَذْكُرَ لِنَفْسِهِ فِيهِ عُذْرًا تَصْرِيحًا أَوْ تَعْرِيضًا بِأَنْ يَتَعَلَّلَ بِمَرَضٍ يَقْتَضِي فَرْطَ الْعَطَشِ وَيَمْنَعُ مِنَ الصَّوْمِ، أَوْ يَقُولُ أَفْطَرْتُ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ فُلَانٍ؛ لِأَنَّهُ مُحِبٌّ لِلْإِخْوَانِ شَدِيدُ الرَّغْبَةِ فِي أَنْ يَأْكُلَ الْإِنْسَانُ مِنْ طَعَامِهِ، وَقَدْ أَلَحَّ عَلَيَّ الْيَوْمَ وَلَمْ أَجِدْ بُدًّا مِنْ تَطْيِيبِ قَلْبِهِ، وَمِثْلَ أَنْ يَقُولَ إِنَّ أَبَوَيَّ أَوْ أَحَدَهُمَا يُشْفِقَانِ عَلَيَّ يَظُنَّانِ أَنْ لَوْ صُمْتُ لَمَرِضْتُ فَلَا يَدَعَانِي أَصُومُ، فَهَذَا وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ مِنْ آفَاتِ الرِّيَاءِ فَلَا يَسْبِقُ إِلَى الْإِنْسَانِ إِلَّا لِرُسُوخِ عِرْقِ الرِّيَاءِ فِي الْبَاطِنِ. أَمَّا الْمُخْلِصُ: فَإِنَّهُ لَا يُبَالِي كَيْفَ نَظَرَ الْخَلْقُ إِلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الصَّوْمِ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْهُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يَعْتَقِدَ غَيْرُهُ مَا يُخَالِفُ عِلْمَ اللَّهِ فَيَكُونَ مُلَبِّسًا، وَإِنْ كَانَ لَهُ رَغْبَةٌ فِي الصَّوْمِ لِلَّهِ قَنَعَ بِعِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُشْرِكْ فِيهِ غَيْرَهُ، وَقَدْ يَخْطُرُ لَهُ أَنَّ فِي إِظْهَارِهِ اقْتِدَاءَ غَيْرِهِ بِهِ وَتَحْرِيكَ رَغْبَةِ النَّاسِ فِيهِ، وَفِيهِ مَكِيدَةٌ وَغُرُورٌ. فَهَذِهِ دَرَجَاتُ الرِّيَاءِ وَمَرَاتِبُ أَصْنَافِ الْمُرَائِينَ، وَجَمِيعُهُمْ تَحْتَ مَقْتِ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَمِنْ أَشَدِّ الْمُهْلِكَاتِ. .بَيَانُ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ الَّذِي هُوَ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ: وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ، وَلَا بِالتَّسْهِيلِ وَالتَّخْفِيفِ أَيْضًا وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ مُسْتَبْطِنٌ فِي الْقَلْبِ، وَأَجْلَى عَلَامَاتِهِ أَنْ يُسَرَّ بِاطِّلَاعِ النَّاسِ عَلَى طَاعَتِهِ، فَرُبَّ عَبْدٍ يُخْلِصُ فِي عَمَلِهِ، وَلَا يَعْتَقِدُ الرِّيَاءَ، بَلْ يَكْرَهُهُ وَيَرُدُّهُ وَيُتَمِّمُ الْعَمَلَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ النَّاسُ سَرَّهُ ذَلِكَ وَارْتَاحَ لَهُ وَرَوَّحَ ذَلِكَ عَنْ قَلْبِهِ شِدَّةَ الْعِبَادَةِ، وَهَذَا السُّرُورُ يَدُلُّ عَلَى رِيَاءٍ خَفِيٍّ مِنْهُ يُرَشِّحُ السُّرُورَ، وَلَوْلَا الْتِفَاتُ الْقَلْبِ إِلَى النَّاسِ مَا ظَهَرَ سُرُورُهُ عِنْدَ اطِّلَاعِ النَّاسِ، فَلَقَدْ كَانَ الرِّيَاءُ مُسْتَكِنًّا فِي الْقَلْبِ اسْتِكْنَانَ النَّارِ فِي الْحَجَرِ، فَأَظْهَرَ مِنْهُ اطِّلَاعُ الْخَلْقِ أَثَرَ الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ، ثُمَّ إِذَا اسْتَشْعَرَ لَذَّةَ السُّرُورِ بِالِاطِّلَاعِ وَلَمْ يُقَابِلْ ذَلِكَ بِكَرَاهِيَةٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ قُوتًا وَغِذَاءً لِلْعِرْقِ الْخَفِيِّ فِي الرِّيَاءِ حَتَّى يَتَحَرَّكَ عَلَى نَفْسِهِ حَرَكَةً خَفِيَّةً فَيَتَقَاضَى تَقَاضِيًا خَفِيًّا أَنْ يَتَكَلَّفَ سَبَبًا يُطَّلَعُ عَلَيْهِ بِالتَّعْرِيضِ أَوْ بِالشَّمَائِلِ كَخَفْضِ الصَّوْتِ وَآثَارِ الدُّمُوعِ. وَأَخْفَى مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَخْتَفِيَ بِحَيْثُ لَا يُرِيدُ الِاطِّلَاعَ، وَلَا يُسَرُّ بِظُهُورِ طَاعَتِهِ وَلَكِنَّهُ مَعَ ذَلِكَ إِذَا رَأَى النَّاسَ أَحَبَّ أَنْ يُقَابِلُوهُ بِالْبَشَاشَةِ وَالتَّوْقِيرِ، وَأَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنْشَطُوا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ، وَأَنْ يُسَامِحُوهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَنْ يُوَسِّعُوا لَهُ فِي الْمَكَانِ، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهِ مُقَصِّرٌ ثَقُلَ ذَلِكَ عَلَى قَلْبِهِ وَوَجَدَ لِذَلِكَ اسْتِبْعَادًا فِي نَفْسِهِ كَأَنَّهُ يَتَقَاضَى الِاحْتِرَامَ مَعَ الطَّاعَةِ الَّتِي أَخْفَاهَا، وَمَهْمَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُ الْعِبَادَةِ كَعَدَمِهَا فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَلْقِ لَمْ يَكُنْ خَالِيًا عَنْ شَوْبٍ خَفِيٍّ مِنَ الرِّيَاءِ أَخْفَى مِنْ دَبِيبِ النَّمْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُوشِكُ أَنْ يُحْبِطَ الْأَجْرَ، وَلَا يَسْلَمُ مِنْهُ إِلَّا الصِّدِّيقُونَ. وَلَمْ يَزَلِ الْمُخْلِصُونَ خَائِفِينَ مِنَ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ يَجْتَهِدُونَ فِي إِخْفَائِهَا أَعْظَمَ مِمَّا يَحْرِصُ النَّاسُ عَلَى إِخْفَاءِ فَوَاحِشِهِمْ، كُلُّ ذَلِكَ رَجَاءَ أَنْ تَخْلُصَ أَعْمَالُهُمُ الصَّالِحَةُ فَيُجَازِيَهُمُ اللَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِإِخْلَاصِهِمْ، إِذْ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي الْقِيَامَةِ إِلَّا الْخَالِصَ وَعَلِمُوا شِدَّةَ حَاجَتِهِمْ وَفَاقَتِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ، وَأَنَّهُ يَوْمٌ لَا يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ، وَلَا بَنُونَ، وَلَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ. فَإِذَنْ شَوَائِبُ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ كَثِيرَةٌ لَا تَنْحَصِرُ، وَمَهْمَا أَدْرَكَ مِنْ نَفْسِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى عِبَادَتِهِ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ فَفِيهِ شُعْبَةٌ مِنَ الرِّيَاءِ، فَلَوْ كَانَ مُخْلِصًا لَمَا بَالَى بِالنَّاسِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى رِزْقٍ، وَلَا أَجَلٍ، وَلَا زِيَادَةِ ثَوَابٍ وَنُقْصَانِ عِقَابٍ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا نَرَى أَحَدًا يَنْفَكُّ عَنِ السُّرُورِ إِذَا عُرِفَتْ طَاعَاتُهُ، فَالسُّرُورُ مَذْمُومٌ كُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مَحْمُودٌ وَبَعْضُهُ مَذْمُومٌ؟ فَنَقُولُ: السُّرُورُ مُنْقَسِمٌ إِلَى مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ، فَالْمَحْمُودُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ إِخْفَاءَ الطَّاعَةِ وَالْإِخْلَاصَ لِلَّهِ وَلَكِنْ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ أَطْلَعَهُمْ وَأَظْهَرَ الْجَمِيلَ مِنْ أَحْوَالِهِ، فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى حُسْنِ صُنْعِ اللَّهِ بِهِ وَأَلْطَافِهِ بِهِ، إِذْ لَا لُطْفَ أَعْظَمُ مِنْ سَتْرِ الْقَبِيحِ وَإِظْهَارِ الْجَمِيلِ، فَيَكُونُ فَرَحُهُ بِجَمِيلِ نَظَرِ اللَّهِ لَهُ لَا بِحَمْدِ النَّاسِ وَقِيَامِ الْمَنْزِلَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يُونُسَ: 58]. وَمِثْلُ أَنْ يَظُنَّ رَغْبَةَ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى الِاقْتِدَاءِ بِهِ فِي الطَّاعَةِ فَيَتَضَاعَفُ بِذَلِكَ أَجْرُهُ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ الْعَلَانِيَةِ بِمَا أَظْهَرَ وَأَجْرُ السِّرِّ بِمَا قَصَدَهُ أَوَّلًا، وَمَنِ اقْتُدِيَ بِهِ فِي طَاعَةٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَعْمَالِ الْمُقْتَدِينَ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقَصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَتَوَقُّعُ ذَلِكَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ سَبَبَ السُّرُورِ. وَمِثْلُ أَنْ يَحْمَدَهُ الْمُطَّلِعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ فَيَفْرَحُ بِطَاعَتِهِمْ لِلَّهِ فِي مَدْحِهِمْ وَبِحُبِّهِمْ لِلْمُطِيعِ وَبِمَيْلِ قُلُوبِهِمْ إِلَى الطَّاعَةِ، فَهَذَا فَرِحٌ بِحُسْنِ إِيمَانِ عِبَادِ اللَّهِ، وَعَلَامَةُ الْإِخْلَاصِ فِي هَذَا الْوَرَعِ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ بِحَمْدِهِمْ غَيْرَهُ مِثْلَ فَرَحِهِ بِحَمْدِهِمْ إِيَّاهُ. وَأَمَّا السُّرُورُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ فَرَحُهُ لِقِيَامِ مَنْزِلَتِهِ فِي قُلُوبِ النَّاسِ حَتَّى يَمْدَحُوهُ وَيُعَظِّمُوهُ وَيَقُومُوا بِقَضَاءِ حَوَائِجِهِ وَيُقَابِلُوهُ بِالْإِكْرَامِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ. .بَيَانُ مَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ مِنَ الرِّيَاءِ وَمَا لَا يُحْبِطُ: وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ وَارِدُ الرِّيَاءِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنَ الْعَمَلِ وَكَانَ عُقِدَ عَلَى الْإِخْلَاصِ فَإِنْ كَانَ مُجَرَّدَ سُرُورٍ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَمَلِ وَإِنْ كَانَ رِيَاءً بَاعِثًا عَلَى الْعَمَلِ وَخَتَمَ الْعِبَادَةَ بِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ عَمَلٍ خَالِصٍ لِوَجْهِ اللَّهِ، وَالْخَالِصُ مَا لَا يَشُوبُهُ شَيْءٌ، فَلَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ مَعَ هَذَا الشَّوْبِ. وَأَمَّا الرِّيَاءُ الَّذِي يُقَارِنُ حَالَ الْعَقْدِ كَأَنْ يَبْتَدِئُ الصَّلَاةَ عَلَى قَصْدِ الرِّيَاءِ، فَإِنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ حَتَّى سَلَّمَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ يَقْضِي، وَلَا يُعْتَدُّ بِصَلَاتِهِ، وَإِنْ نَدِمَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ وَاسْتَغْفَرَ وَرَجَعَ قَبْلَ التَّمَامِ فَالْأَرْجَحُ أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ صَلَاتُهُ مَعَ قَصْدِ الرِّيَاءِ فَلْيَسْتَأْنِفْ؛ لِأَنَّ بَاعِثَهُ فِي الرِّيَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ دُونَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فَلَمْ يَنْعَقِدِ افْتِتَاحُهُ فَلَمْ يَصِحَّ مَا بَعْدَهُ. .بَيَانُ دَوَاءِ الرِّيَاءِ وَطَرِيقِ مُعَالَجَةِ الْقَلْبِ فِيهِ: وَفِي عِلَاجِهِ مَقَامَانِ: أَحَدُهُمَا: قَلْعُ عُرُوقِهِ وَأُصُولِهِ الَّتِي مِنْهَا انْشِعَابُهُ. وَالثَّانِي: دَفْعُ مَا يَخْطُرُ مِنْهُ فِي الْحَالِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي قَلْعِ عُرُوقِهِ وَأُصُولِهِ: وَأَصْلُهُ حُبُّ الْمَنْزِلَةِ وَالْجَاهِ، وَإِذَا فُصِّلَ رَجَعَ إِلَى ثَلَاثَةِ أُصُولٍ وَهِيَ: حُبُّ لَذَّةِ الْمَحْمَدَةِ، وَالْفِرَارُ مِنْ أَلَمِ الذَّمِّ، وَالطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ هِيَ الَّتِي تُحَرِّكُ الْمُرَائِيَ إِلَى الرِّيَاءِ. وَعِلَاجُهُ أَنْ يَعْلَمَ مَضَرَّةَ الرِّيَاءِ وَمَا يَفُوتُهُ مِنْ صَلَاحِ قَلْبِهِ، وَمَا يَحْرُمُ عَنْهُ فِي الْحَالِ مِنَ التَّوْفِيقِ وَفِي الْآخِرَةِ مِنَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَا يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنَ الْعِقَابِ وَالْمَقْتِ الشَّدِيدِ وَالْخِزْيِ الظَّاهِرِ. فَمَهْمَا تَفَكَّرَ الْعَبْدُ فِي هَذَا الْخِزْيِ وَقَابَلَ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْعِبَادِ وَالتَّزَيُّنِ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِمَا يُفَوِّتُهُ فِي الْآخِرَةِ وَبِمَا يُحْبِطُ عَلَيْهِ مِنْ ثَوَابِ الْأَعْمَالِ فَإِنَّهُ يَسْهُلُ عَلَيْهِ قَطْعُ الرَّغْبَةِ عَنْهُ، كَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْعَسَلَ لَذِيذٌ وَلَكِنْ إِذَا بَانَ لَهُ أَنَّ فِيهِ سُمًّا أَعْرَضَ عَنْهُ. ثُمَّ أَيُّ غَرَضٍ لَهُ فِي مَدْحِهِمْ وَإِيثَارِ ذَمِّ اللَّهِ لِأَجْلِ حَمْدِهِمْ، وَلَا يَزِيدُهُ حَمْدُهُمْ رِزْقًا، وَلَا أَجَلًا، وَلَا يَنْفَعُهُ يَوْمَ فَقْرِهِ وَفَاقَتِهِ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَمَّا الطَّمَعُ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ فَبِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْمُسَخِّرُ لِلْقُلُوبِ بِالْمَنْعِ وَالْإِعْطَاءِ، وَأَنَّ الْخَلْقَ مُضْطَرُّونَ فِيهِ، وَلَا رَازِقَ إِلَّا اللَّهُ، وَمَنْ طَمِعَ فِي الْخَلْقِ لَمْ يَخْلُ مِنَ الذُّلِّ وَالْخَيْبَةِ، وَإِنْ وَصَلَ إِلَى الْمُرَادِ لَمْ يَخْلُ عَنِ الْمِنَّةِ وَالْمَهَانَةِ، فَكَيْفَ يَتْرُكُ مَا عِنْدَ اللَّهِ بِرَجَاءٍ كَاذِبٍ وَوَهْمٍ فَاسِدٍ، وَقَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ، وَإِذَا أَصَابَ فَلَا تَفِي لَذَّتُهُ بِأَلَمِ مِنَّتِهِ وَمَذَلَّتِهِ، وَأَمَّا ذَمُّهُمْ فَلَمْ يَحْذَرْ مِنْهُ، وَلَا يَزِيدُهُ ذَمُّهُمْ شَيْئًا مَا لَمْ يَكْتُبِ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُعَجِّلُ أَجَلَهُ، وَلَا يُؤَخِّرُ رِزْقَهُ، وَلَا يَجْعَلُهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَلَا يُبَغِّضُهُ إِلَى اللَّهِ إِنْ كَانَ مَحْمُودًا عِنْدَ اللَّهِ، فَالْعِبَادُ كُلُّهُمْ عَجَزَةٌ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، فَإِذَا قُرِّرَ فِي قَلْبِهِ آفَةُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَضَرَرُهَا فَتَرَتْ رَغْبَتُهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ قَلْبُهُ، وَالْعَاقِلُ لَا يَرْغَبُ فِيمَا يَكْثُرُ ضَرَرُهُ وَيَقِلُّ نَفْعُهُ، فَهَذَا مِنَ الْأَدْوِيَةِ الْعِلْمِيَّةِ الْقَالِعَةِ مَغَارِسَ الرِّيَاءِ. وَأَمَّا الدَّوَاءُ الْعَمَلِيُّ فَهُوَ أَنْ يُعَوِّدَ نَفْسَهُ إِخْفَاءَ الْعِبَادَاتِ وَإِغْلَاقَ الْأَبْوَابِ دُونَهَا كَمَا تُغْلَقُ الْأَبْوَابُ دُونَ الْفَوَاحِشِ فَلَا تُنَازِعُهُ نَفْسُهُ إِلَى طَلَبِ عِلْمِ غَيْرِ اللَّهِ بِهِ. الْمَقَامُ الثَّانِي فِي دَفْعِ الْعَارِضِ مِنْهُ أَثْنَاءَ الْعِبَادَةِ: وَذَلِكَ لَابُدَّ أَيْضًا مِنْ تَعَلُّمِهِ، فَإِنَّ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ بِقَلْعِ مَغَارِسِ الرِّيَاءِ وَقَطْعِ الطَّمَعِ وَاسْتِحْقَارِ مَدْحِ الْمَخْلُوقِينَ وَذَمِّهِمْ فَقَدْ لَا يَتْرُكُهُ الشَّيْطَانُ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ، بَلْ يُعَارِضُهُ بِخَطَرَاتِ الرِّيَاءِ، فَإِذَا خَطَرَ لَهُ مَعْرِفَةُ اطِّلَاعِ الْخَلْقِ دَفَعَ ذَلِكَ بِأَنْ قَالَ: مَا لَكَ وَلِلْخَلْقِ عَلِمُوا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا وَاللَّهُ عَالِمٌ بِحَالِكَ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي عِلْمِ غَيْرِهِ، فَإِنْ هَاجَتِ الرَّغْبَةُ إِلَى لَذَّةِ الْحَمْدِ ذَكَرَ مَا رَسَخَ فِي قَلْبِهِ مِنْ قَبْلُ مِنْ آفَةِ الرِّيَاءِ وَتَعَرُّضِهِ لِلْمَقْتِ الْإِلَهِيِّ وَخُسْرَانِهِ الْأُخْرَوِيِّ. .بَيَانُ الرُّخْصَةِ فِي قَصْدِ إِظْهَارِ الطَّاعَاتِ: وَلَكِنْ فِي الْإِظْهَارِ أَيْضًا فَائِدَةٌ، وَلِذَلِكَ أَثْنَى اللَّهُ تَعَالَى عَلَى السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ فَقَالَ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 271]. وَالْإِظْهَارُ قِسْمَانِ: أَحَدُهُمَا: فِي نَفْسِ الْعَمَلِ، وَالْآخَرُ: بِالتَّحَدُّثِ بِمَا عَمِلَ. الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: إِظْهَارُ نَفْسِ الْعَمَلِ كَالصَّدَقَةِ فِي الْمَلَأِ لِتَرْغِيبِ النَّاسِ فِيهَا، كَمَا رُوِيَ عَنِ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَاءَ بِالصُّرَّةِ فَتَتَابَعَ النَّاسُ بِالْعَطِيَّةِ لَمَّا رَأَوْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً فَعَمِلَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنِ اتَّبَعَهُ» وَتَجْرِي سَائِرُ الْأَعْمَالِ هَذَا الْمَجْرَى مِنَ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَغَيْرِهِ، وَلَكِنَّ الِاقْتِدَاءَ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الطِّبَاعِ أَغْلَبُ، فَالسِّرُّ أَفْضَلُ مِنْ عَلَانِيَةٍ لَا قُدْوَةَ فِيهَا، أَمَّا الْعَلَانِيَةُ لِلْقُدْوَةِ فَأَفْضَلُ مِنَ السِّرِّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ الْأَنْبِيَاءَ بِإِظْهَارِ الْعَمَلِ لِلِاقْتِدَاءِ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»، وَلَكِنْ عَلَى مَنْ يُظْهِرُ الْعَمَلَ وَظِيفَتَانِ: إِحْدَاهُمَا: أَنْ يُظْهِرَهُ حَيْثُ يَعْلَمُ أَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يَظُنُّ ظَنًّا، وَرُبَّ رَجُلٍ يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُهُ دُونَ جِيرَانِهِ، وَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ جِيرَانُهُ دُونَ أَهْلِ السُّوقِ، وَرُبَّمَا يَقْتَدِي بِهِ أَهْلُ مَحَلَّتِهِ، وَإِنَّمَا الْعَالِمُ الْمَعْرُوفُ هُوَ الَّذِي يَقْتَدِي بِهِ النَّاسُ كَافَّةً، فَغَيْرُ الْعَالِمِ إِذَا أَظْهَرَ بَعْضَ الطَّاعَاتِ رُبَّمَا نُسِبَ إِلَى الرِّيَاءِ وَالنِّفَاقِ وَذَمُّوهُ وَلَمْ يَقْتَدُوا بِهِ فَلَيْسَ لَهُ الْإِظْهَارُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْإِظْهَارُ بِنِيَّةِ الْقُدْوَةِ مِمَّنْ هُوَ فِي مَحَلِّ الْقُدْوَةِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي مَحَلِّ الِاقْتِدَاءِ بِهِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يُرَاقِبَ قَلْبَهُ فَإِنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِيهِ حُبُّ الرِّيَاءِ الْخَفِيِّ فَيَدْعُوهُ إِلَى الْإِظْهَارِ بِعُذْرِ الِاقْتِدَاءِ وَإِنَّمَا شَهْوَتُهُ التَّجَمُّلُ بِالْعَمَلِ، وَبِكَوْنِهِ مُقْتَدًى بِهِ، فَلْيَحْذَرِ الْعَبْدُ خِدْعَ النَّفْسِ، فَإِنَّ النَّفْسَ خَدُوعٌ، وَالشَّيْطَانَ مُتَرَصِّدٌ، وَحُبَّ الْجَاهِ عَلَى الْقَلْبِ غَالِبٌ. وَقَلَّمَا تَسْلَمُ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ عَنِ الْآفَاتِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ بِالسَّلَامَةِ شَيْئًا، وَالسَّلَامَةُ فِي الْإِخْفَاءِ، وَفِي الْإِظْهَارِ مِنَ الْأَخْطَارِ مَا لَا يَقْوَى عَلَيْهِ أَمْثَالُنَا، فَالْحَذَرُ مِنَ الْإِظْهَارِ أَوْلَى بِنَا وَبِجَمِيعِ الضُّعَفَاءِ. الْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَتَحَدَّثَ بِمَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ، وَحُكْمُهُ حُكْمُ إِظْهَارِ الْعَمَلِ نَفْسِهِ، وَالْخَطَرُ فِي هَذَا أَشُدُّ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ النُّطْقِ خَفِيفَةٌ عَلَى اللِّسَانِ، وَقَدْ تَجْرِي فِي الْحِكَايَةِ زِيَادَةٌ وَمُبَالَغَةٌ، وَلِلنَّفْسِ لَذَّةٌ فِي إِظْهَارِ الدَّعَاوَى عَظِيمَةٌ إِلَّا أَنَّهُ لَوْ تَطَرَّقَ إِلَيْهِ الرِّيَاءُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي إِفْسَادِ الْعِبَادَةِ الْمَاضِيَةِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَهْوَنُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّ مَنْ قَوِيَ قَلَبُهُ وَتَمَّ إِخْلَاصُهُ وَصَغُرَ النَّاسُ فِي عَيْنِهِ وَاسْتَوَى عِنْدَهُ مَدْحُهُمْ وَذَمُّهُمْ وَذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ يَرْجُو الِاقْتِدَاءَ بِهِ وَالرَّغْبَةَ فِي الْخَيْرِ بِسَبَبِهِ فَهُوَ جَائِزٌ، بَلْ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ صَفَتِ النِّيَّةُ وَسَلِمَتْ عَنْ جَمِيعِ الْآفَاتِ؛ لِأَنَّهُ تَرْغِيبٌ فِي الْخَيْرِ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْخَيْرِ خَيْرٌ، وَقَدْ نُقِلَ مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ الْأَقْوِيَاءِ.
|